«الفقرا» شوق وحنين
«الفقرا» شوق وحنين
هنالك قرى كالنساء تهزمك أسماؤها مسبقاً تغريك وتربكك وتفرغك، وتجردك ذاكرتها من كل مشاريعك ليصبح الحب كل برنامجك. ما أن نحط رحالك بها حتى تصبح أسيرها ولا انفكاك البتة عنها، تغريك بجمالها ودلالها الآخاذ، نجد الابتسامة المشرقة في عيون أطفالها.. وبراءة شيوخها تضمك بحنان وتغدق عليك من أنس أهلها وحلاوة حديثهم ومسامرتهم وألفتهم التي تأتي منسابة كجريان نهر دفاق.. تحس وأنت في حضرتهم بعفو الخاطر وطيبة السريرة وسلامة المقصد.. يركلون هموم الحياة ومتاعبها وراء ظهورهم تعلو الضحكات أساريرهم الوضاءة وتحيط بهم الفرحة من كل جانب.
في الصباح الباكر تخشع مع تراتيل صوت شيوخ الخلوة فتتحلق فوق ذلك البرش الذي صنع من جريد النخيل نجلس عليه بالارتباك الطفولي نرد مع أخوتنا تلك الآيات التي لم نكن نفهمها بعد، ولكننا كنا ننسخها على اللوح ونحفظها كيفما كان، خوفاً من عصا الشيخ الطويلة التي كانت تتربص بأقدامنا لتدميها عند أول غلطة.
سارت بنا عجلة الأيام وتركنا كل ذلك وغادرنا الوطن، محملين بحقائب نحشر فيها ما في خزائننا من عمر، نحشر فيها كثير من الأشياء: ألبوم صور، كتب أحببناها، وهدايا لها ذكرى في نفوسنا.. نحشو وجوه من أحببنا، عيون من أحبونا، رسائل كتبت لنا.. وأخرى كنا كتبناها. آخر نظرة لجارة عجوز قد لا نراها، قبلة على خد صغير سيكبر بعدنا، دمعة على وطن قد لا نعود إليه.
ويمر بنا قطار العمر، متكئين على عصا الترحال، صرنا بين رحى تلك السنين بين شوق جارف ومقاومة حتى الاستماتة عن البوح إننا في كل يوم يداهمنا فيه الشوق وصقيع الغربة الذي ينهش جلدنا بين تلك الأشواق والحنين نجد أنفسنا في أسئلة حيرى متى تعود لنا أيامنا الوردية متى ننفك من شجار هذه الحياة وندع لقلوبنا أن تعرف معنى السكينة والطمأنينة في أرض الوطن؟!
حينما نريد أن نطفئ تلك النار المتأجج في جوانحنا نذهب إلى القادمين في عطلاتهم الصيفية نسترق السمع لنتعرف على أخبار من أحببناهم يمعنا الخجل وبياض الشعر الذي كسا شعرنا من الأسئلة المباشرة والبوح الصريح خوفاً على قلبنا من سماع من لا يسرنا، تعترينا فرحة جامحة ونحن نسمع خبر دخول أحدهم إحدى الجامعات المرموقة، وخطوبة من حملناهم بين أيدينا صغارا، نفرح لأم أيتام ابتسمت لها الدنيا وهي تجهز أوراقها للحج أو العمرة، أو تلك التي أعد لها أولادها سكناً يليق بها بعد أن دفنت نفسها في بيت أبيها تشكو للأيام ترملها في ريعان شبابها، أو عودة مسافر انقطعت أسبابه بسبب الغربة اللعينة، وبفرحة عانس طال في عينها الانتظار في زمن الانكسار.
ونحن متسربلين بثياب الغربة نحمل الوطن أثاثاً لغربتنا، ننسى عندما يضعنا الوطن عند بابه، عندما يغلق قلبه في وجهنا، دون أن يلقي نظرة على حقائبنا، دون أن يستوقفه دمعنا.. ننسى أن نسأله من سيؤثثه بعدنا؟ وتسمر بنا السنوات ونحن في رحى الغربة تدور بنا تلك الساقية بأنينها وصوت الحنين الذي لا يبارح مهجتنا مُمنين النفس بأن نستنشق عبير تلك الأيام التي نسمر فيها بين الأهل والأحباب وحقيبة الذكريات.
قليل تؤدي شكره... خير من كثير لا تطيقه!!
|