يوم الرحول..
حينما أخذت أنفاس الصيف في الفتور ولاح على الأفق تباشير الخريف، وفي صفرة باكرة تجري مع ورق الشجر ونسمات عابرة رعناء تجري أذيالها مع المساء، هاتفتني أم محمد بأنها قد حزمت حقائبها وأعدت أمتعتها وأن يوم غدٍ يوم الرحيل والعودة إلى الجذور بعيداً عن صخب المدينة وأضوائها، وهي تطوي صفحة من الآمال والتطلعات عشناها سوياً مع أولادنا بعد أن تبددت مع أقدار الحياة.
في الأفق البعيد وقف ابني الصادق بجوار (الدفار) ينظر إلى الشمس النارية السقيمة وهي ترسل أشعتها متعثرة بين فروع تلك الشجرة التي أمام منزلنا تتملكه الدهشة ويسري بعينه ما لا يستطيع البوح به ويعجز لسانه عن التعبير عنه.. وجالت بخاطره كثير من الأسئلة البريئة هل هذه الخطوة التي أقدمت عليها الأسرة هي مقدمة لخير قادم أم أنها بداية الانهيار؟!
بجانب الدفار تجمع أصدقاء الأبناء محمد وعبد الرحيم وهم يراقبون العمال عن كسب وهم يضعون العفش داخل الدفار أخذوا يلتقطون الصور التذكارية لتلك اللحظات العصيبة وهم يودعون الحي الذي عاشوا فيه ردحاً من الزمن، بينما شاح وجه الصادق وهو يتلفت يمنة ويسرى يبحث عن أصدقائه الذين غابوا جميعاً فهم لم يزالوا في طفولتهم البريئة ولا يدركون معنى الخطوة التي أقبلت عليها الأسرة ولكن في قرارة نفسه يدرك أن شيئاً ما قد حصل خاصة عندما رأى نساء الحي قد اجتمعن في صحن الدار وهن يحملن الهدايا إلى والدته وكلمات الوداع التي ظللن يددنها وألم الفراق والحسرة التي كانت على محياهن حينما ذرفت إحدى صديقات أمه المقربات دمعة على خدها وهي تقول: (والله ح تفريقي علينا كثير يا أم محمد، لكن على الله ما تقطعينا وأبقي دائماً على تواصل معنا.
حينما تحرك الدفار ظل الصادق ينظر نظرة عاتبة حزينة فيها حب وفيها دموع لكن المدينة بدت وكأنها مشغولة عنه فلم تبادله العواطف ولم تأبه لرحيله وهو يشهد ذلك الوداع الجافي الخشن من أطرافها.. لم يكن الصادق متبيناً كل ما تقع عليه عيناه لأن سحباً من الدموع برق في مخيلته ومن العجيب أننا نسخو بالدمعة على كل وطن نفارقه وكل أرض ونبكي فيها أيام السعادة كما نبكي فيها أيام الشقاء وتمضي عجلة الأيام.
قليل تؤدي شكره... خير من كثير لا تطيقه!!
|