السلفية المفترى عليها ( تصحيح بعض المفاهيم )
في ظل اختلاط المفاهيم لدى كثير من المسلمين اليوم ، وتسمية الأشياء بغير أسمائها ، أصبح من الضروري تحرير المصطلحات الشرعية ، حتى يكون الناس على بينة من أمر هذه المصطلحات ، وحتى لا ينسب للشرع ما ليس منه ، وحتى لا تشوه صورة الإسلام باسم الإسلام وتحت ذريعة الغيرة على الدين ، ونحو ذلك من التبريرات العقلية والاستحسانات العاطفية التي لا تتقيد بالضوابط الشرعية والأصول المرعية عند علماء الشريعة ، وكيف لمثل هؤلاء العاطفيين أن يفقهوا حقائق الأدلة ومقاصد الشريعة وهم لم يثنوا ركبهم عند العلماء المعتبرين الربانيين !
ومن المفاهيم التي شوهت وتلبس بها من ليس من أهلها ، مفهوم السلفية ، الذي أصبح الكثير من الحركيين يحاولون الانتساب إليه ، وهم لم يسيروا على هدي من نسب إليه ، فأصبحنا نسمع عن (( السلفية الجهادية )) ، الذي أطلق على كل من خرج على مجتمعه ودولته ، كتنظيم القاعدة أو الجماعة السلفية للدعوة والقتال في الجزائر ، ولكنك عندما تدقق في منهجهم تجدهم بعيدين عن أصول السلف ومنهجهم ، بل هم إلى أصول الخوارج أقرب وبصفاتهم ألصق ، فنسبتهم ـ إذن ـ إليهم أليق .
وقد تولى كبر تضليل الناس في أمر هذه المفاهيم الإعلام العربي عن قصد أو بدون قصد ، ولكن لا غرابة في ذلك فإعلامنا العربي اليوم ـ إلا ما رحم ربي ـ أصبح عالة على آلة وأبواق الإعلام الغربية ، التي تعي أهمية التدليس في المصطلحات الشرعية ، لتشويه صورة الإسلام ، حتى أصبح ذكر هذا المصطلح عند بعض مثقفينا يقصد منه عند إطلاقه على حركة أو جماعة الذمّ والتشويه والتخلف والرجعية ، في حين أن هذا المصطلح يعبر ـ في حقيقته ـ عن صورة الإسلام الناصعة التي جاء بها محمد عليه الصلاة والسلام وسار عليها وطبقها صحابته رضي الله عنهم ومن سلك سبيلهم من التابعين والأئمة المهديين ، بعيداً عن شركيات الخرافيين وهرطقات الكلاميين ودعاوى الظلاميين .
إن السلفية في صورتها النقية تعني اتباع الدليل وفهمه على وفق فهم من عاصروا نزول الوحي غضاً طرياً ، وهم حواريو النبي صلى الله عليه وسلم الذين أمرنا الله باتباع سبيلهم وحذرنا من تنكب طريقهم كما قال جل شأنه : (( وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً )) (النساء:115) . وبمثل هذا أمرنا نبينا صلى الله عليه وسلم في قوله : (( فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ فَتَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ )) ، وقوله صلى الله عليه وسلم : (( ما من نَبِيٍّ بَعَثَهُ الله في أُمَّةٍ قَبْلِي إلا كان له من أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ من بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مالا يَفْعَلُونَ وَيَفْعَلُونَ مالا يُؤْمَرُونَ فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بيده فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذلك من الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ )) أخرجه مسلم .
وهذا ما فقهه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهذا ابن مسعود رضي الله عنه يقول : ( من كان مستناً فليستن بمن قد مات ، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة ، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، كانوا أفضل هذه الأمة ، أبرها قلوباً ، وأعمقها علماً ، وأقلها تكلفاً ، اختارهم الله لصحبة نبيه ولإقامة دينه ) .
وقال أيضاً رضي الله عنه : ( إِنَّ اللَّهَ نَظَرَ في قُلُوبِ الْعِبَادِ فَوَجَدَ قَلْبَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ فَاصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ فَابْتَعَثَهُ بِرِسَالَتِهِ ثُمَّ نَظَرَ في قُلُوبِ الْعِبَادِ بَعْدَ قَلْبِ مُحَمَّدٍ فَوَجَدَ قُلُوبَ أَصْحَابِهِ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ فَجَعَلَهُمْ وُزَرَاءَ نَبِيِّهِ يُقَاتِلُونَ على دِينِهِ فما رَأَى الْمُسْلِمُونَ حَسَناً فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ وما رَأَوْا سَيِّئاً فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ سيء ) أخرجه أحمد في (( المسند )) ، ولا شك أن أول المسلمين من أمة محمد عليه الصلاة والسلام هم الصحابة الكرام ، فما رأوه حسناً كان عند الله حسناً ، وما رأوه سيئاً كان عند الله سيئاً .
فالسلفية إذن هي التزام فهم الصحابة لأصول الدين ، والتزام طريقتهم في فهم النصوص الشرعية ومنهج الاجتهاد ، وإنما رضي الله تعالى على من بعدهم باتباعهم لهدي الصحابة كما قال تعالى : (( وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة:100) ومن هنا فإن كل من يدعي السلفية ينبغي أن نحاكمه إلى فهم السلف من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ، فهم الذين جالسوا النبي عليه الصلاة والسلام وأخذوا العلم عنه مشافهة ، وشهدوا أحواله صغيرها وكبيرها ، وشهد الله لهم بالإيمان والصدق ، وزكى أفهامهم في قوله : (( وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ )) ، وكانوا هم أول المؤمنين ونواة العاملين لهذا الدين ، وفهمهم أمنة للأمة من أن تضل في أودية آراء الرجال وزبالات أذهان البشر ، قال عليه الصلاة والسلام : (( النُّجُومُ أَمَنَةٌ للسَّمَاءِ فَإِذَا ذَهَبَتِ النُّجُومُ أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُ وَأَنَا أَمَنَةٌ لأَصْحَابِي فَإِذَا أَنَا ذَهَبْتُ أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لأُمَّتِي فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ )) أخرجه مسلم .
وتفريعاً على ما سبق أقول : إن من خالف سبيل الله الصحابة وكفر المسلمين وخرج على ولاة أمورهم ، فليس هو من السلفية في شيء ؛ لأنه قد جانب طريقة السلف في فهم النصوص ، فكيف يُنسب إليهم ولما يسلك سبيلهم !
وليُعلم أن كل من ينسب هؤلاء للسلفية ، فإنه يضفي عليهم وعلى تصرفاتهم الشرعيةَ ، وإنه يعتبر ـ شعر أو لم يشعر ـ مشجعاً لهم على ضلالهم وانحرافهم وداعماً لإرهابهم ، فهل يحق لنا أن نصف وسائل الإعلام ، التي تصف هؤلاء التكفيريين بالسلفية ، بأنها وسائل إعلام إرهابية لأنها تضفي على تصرفاتهم الشرعية ؟! أعتقد أن الجواب محرج لكثير من وسائل إعلامنا العربية ( العربية ! ) .
محمد عبدالقادر (أبو نهى )
|