مشروع الجزيرة
كانت ثروة السودان في كل أدبيات وحصص المدارس، بل وفي المعاينات الوظيفية هي ـ القطن ـ والقطن هذا ينتج في الجزيرة ـ وهذا الامر جعل من مشروع الجزيرة معروفاً للسودانيين وعلى مدى أكثر من قرن من الزمان معرفتهم لوالديهم وجدودهم وأسرهم وأصحابهم..!.
والذين عاشوا وعايشوا خمسينيات القرن الماضي، وهو القرن العشرين «يرحمه الله بكل خيراته.. وخبراته.. وأفراحه الكثيرة ومراراته القليلة» يذكرون «الطفرة» العظيمة التي احدثها مشروع الجزيرة في حياة كل السودانيين، وليس المزارعين فقط..!.
ذلك لأن القطن السوداني ـ بتيله الطويلة.. والمتوسطة.. والقصيرة كان قد غمر العالم وكسى كل إنسان فيه، حيث لم ينافسه فيما بعد إلا القطن الهندي الذي يقول البعض إن منافسته للسودان كانت مقصودة من الانجليز عندما هموا بالرحيل الاجباري والقسري من السودان 1956م..
كانت الحكايات والقصص.. والروايات تحكي عن «الخير.. والرخاء» في الجزيرة بالذات بعد أن تحول القطن السوداني إلى « ذهب أبيض» كما كان يطلق عليه إلى أن جاء البترول واطلق عليه اسم «الذهب الاسود»..!.
وبينما زحف آلاف السودانيين من كل بقاع السودان ـ ودون لونيه. أو جهوية.. أو إتفاقية ـ ثروة وسلطة ـ نحو الجزيرة ملتحقين بسكانها وأهلها الذين رحبوا بالوافدين من كل حدب وصوب أحسن ترحيب، بسط الله الرزق على بقية انحاء السودان الأخرى من عائدات القطن الذي سيطر على اسواق العالم ومنح السودان والسودانيين مالاً وشهرة.. بل واطلق «النكات» كالتي اطلقت في الخليج بعد ـ طفرة البترول ـ وذلك من نوع تحويل «الثلاجات» لدى المزارعين الى دواليب للملابس..!.
بالطبع أسهم القطن.. وأسهمت الجزيرة ذات العائد الضخم انذاك في بناء هذا السودان الذي يخربه ـ بكل أسف بعض أبنائه الآن».. فالتعليم ازدهر وانتشر بفضل الله.. والجزيرة.. والقطن.. وبقية خيرات الجزيرة المرورية، وطبعاً جهد وكد وعرق المزارعين الذين جعلوا من ولاية الجزيرة ـ جمهورية سودان مصغرة ـ ولكنها كبيرة بالعطاء إذْ كان نصيبها في ميزانية السودان ومتطلبات أهله هي الأكبر.. والاهم.. في مجالات الصحة.. والطرق.. والأمن.. والسلام.. والنظام.. برغم الصرف المرهق على الحرب المجنونة في جنوب السودان والتي اندلعت العام 1955م، وكأن من اشعلوها أو حرضوا عليها أرادوا امتصاص دخل البلاد من القطن ومشروع الجزيرة العملاق..!.
ولقد كانت حقبة نوفمبر 1958ـ 1964م، حقبة أضافة وتوسع في مشروع الجزيرة.. مع أن التراجع الصناعي للقطن قد بدأ في تلك الحقبة الى أن وصل مستواه الحالي بعد أن حلت مكان الأنسجة القطنية أنسجة أخرى نفطية الخامة حيث تواصل التردي في الاسعار تبعاً لضعف الطلب وتحول القطن الى منسوجات نادرة وقليلة الاستعمال أو الى ـ قطن طبي..!.
كانت المناقل إضافة حقيقية لمشروع الجزيرة الذي تعاقبت عليه إدارات.. وصدرت بصدده قرارات فيما بعد الى أن بلغ الامر حاله الحالي حيث صار عبئاً على الاقتصاد الوطني، وتحول الملايين من العاملين فيه.. والزارعين.. والمستهلكين الى قطاعات بشرية مطرودة وشبه عاطلة في عواصم البلاد، بل وفي عواصم الدنيا الأخرى، خاصة السعودية والخليج حيث انتقل منتج وزارع ـ الذهب الابيض ـ إلى عتالي.. أو غاسل عربات.. أو عامل اورنيش أو أية صنعة من الصنع الهامشية التي لا تليق بمن كان ينتج الذهب هو أو آباءه.. أو أجداده..!.
إن الرسالة الحالية ـ والمنشورة هنا ـ يحاول كاتبها أن يلخص مأساة هذا المشروع العملاق الذي تقزم بفعل فعلة.. وننشر المقال ـ الدراسة ـ ليس تقليباً للمواجع.. أو اساءة لأحد.. أو يأساً من هذا المشروع ـ الامل الوحيد والاهم من البترول وخلافه، بل أملاً في تدارك الأمر وإنقاذ مشروع الجزيرة والمناقل.
|