محمد احمد محجوب .. الشاعر المبدع .. الحلقة الثالثة والرابعة

الحلقة الثالثة...
الشعر الوصفي والاجتماعي:
المحجوب في هذا الجانب أو اللون من الشعر مقل,ونتاجه في ذلك لا يكاد يذكر من حيث الكم,ولكن على قلته امتاز بالأصالة والرصانة.
واذا كان الشعر الوصفي يتناول كل ما يمكن وصفه ونقل صوره ومفاهيمه من الحياة والأحياء,من الطبيعة وغيرها من سلوك الناس وعاداتهم وأعرافهم,من أعمالهم ونوعية تصرفاتهم فان المحجوب قد حصر شعره هذا في نطاق ضيق محدود لم يتجاوزه ,ولعل ما يعده الآخرون من الشعر الوصفي أو الاجتماعي لا يعده هو كذلك.
ويمكن أن يتضح ذلك أكثر اذا رجعنا الى قوله بأنه لا يصلح من مواضيع الحياة للشعر (الا ما كان جميلا مقتبسا من المثل الأعلى للحياة) وبناء على هذا الرأي فان المحور الذي يعنيه الشاعر لايدخل فيه بالطبع (الحاوي-ضاربة الوداع-قارئة الكف-ماسح الأحذية-المكوجي..) وغير ذلك من المواضيع العامة التي تعج بها الحياة في العديد من نماذجها.وذلك حسب قراءتي لشعره.
فاذا كان الأدب هو الحياة بمختلف ألوانها وأشكالها-كما نعرف وكما عرفه هو في كتاباته النقدية-فان مثل تلك النماذج التي ذكرناها ماهي الا شرائح من الحياة- وهذا موضوع لا أود أن أفيض فيه الآن.
تناول المحجوب في شعره الوصفي –فيما تناول-(النيل)وما قامت في روابيه من حياة عرفت الفن والجمال0والخضرة اليانعه لون الحياة وطعم المسرة00
في قصيدته(القديم الجديد)يحكي المحجوب مسيرة النيل الطويلة عبر السدود والقلاع يتسع هنا وينكمش هناك ينثر الخير والبر بيد بيد كريم لايعرف الفقر:
وقضى الحياة على الهضاب وفي الربى
بل عاد في كبد السماء سحابا
النيل بما افاض الله سبحانه عليه من فضله يمسح جبهة الحياة بكف حانية ويضمخ الارض بالنعيم 0تنبعث النسمة ندية طرية من شاطئيه يبثها مناجيه نماء وخضرة وازدهارا يطوق (الجزيرة )من فيض حنانه:
يا للجزيرة اسبلت اهدابا
والموج يرقص حولها منسابا
النيل طوقها وزين جيدها
يضفي عليها سندسا وحبابا
كالعاشق المفتون طوق إلفه
خوف الفراق ولايحير جوابا
ينساب نحو الثغر متئد الخطا
لو عاد من سفر لرق وطابا
تمضي الحياة به ويوسعه النوى
في لجة البحر المرير عذابا
والشاعر مأخوذ بالنيل مفتون به لايود فراقه ولايطيق وداعه00 ويظهر ذلك جليا في قوله (ويوسعه النوى في لجة البحرالمرير عذابا)أليس هو منبت الحس وموئل الجمال00
يانيل قد شهدت جمالك اعصر
وتفيأت منك الفنون رحابا
متجدد في كل ومضة خاطر
شاب الزمان ولاتزال شبابا
بكرت تغنيك الطيور كأنها
رهبان دير يرهبون حسابا
وتمايل النخل الطروب كأنه
أيد تلوح ترقب الاحباب
وتعانقت فيك الظلال كأنها
بسط تهيئ للندي شرابا
وافتر ثغر الزهريلثم برعما
ويفوح عطرا باسما خلابا
وضحكت في شفة الضفاف
فأينعت مهج الحياة زنابقا ورغابا
هذه القصيدة لوحة ناطقة ومشهد من الطبيعة متناسق الالوان والظلال..حلو النغمات شجي الصوت..غناء الطيوروتمايل النخيل وتلويحها تعانق الظلال الوارفة وتفتح الزهور. وبسمة النيل لحسن الاستقبال وكأنها كلمة شكر لهذا المهرجان الذي اقيم لاستقباله..
والنيل عند المحجوب هو مجدد الحياة الذي يزرع البسمة في الشفاه وهو مسرح الجمال وساحة الفن وموطن الحب وفوق ذلك هو تاريخ امة قديمها وجديدها..
وصف الطبيعة عند المحجوب-في الغالب-لايكون في قصيدة لوحدها انشدها من اجل الوصف وانما تأتي الطبيعة ضمن موضوع القصيدة..وذلك لاندماج الشاعر بالطبيعة على طريقة الشعراء الوجدانيين يلجأ اليها ويبثها نجواه ويشكو المه وحزنه كما يناجيها في افراحه ويحتضنها في نعيمه..
وإن كان من الصعب ان نفصل (وصف الغيم )الوارد في هذه القصيدة(جبل الرجاف)لان القصيدة كلها ينتظمها خيط نفسي واحد الا اننا نستميح الشاعر عذرا في اجتزاء هذا الوصف لما فيه من الروعة والجمال..
وصف الغيم هنا عبارة عن لوحة فنية وضعت بإتقان شديد ومهارة بارعة.
والغيم يمرح في الجبال كأنه
طفل يقبل ظله مفتونا
متنقل بين الجبال معربدا
آنا وآنا كالجبال رزينا
كغلالة الحسناء رق اديمها
فضحت جبينا مشرقا وعيونا
واذا تكاثف وادلهم ظلاله
حجب النجوم الثاقبات ضنينا
تعشي عيون الناظرين بروقه
ويصول هدارا يسح هتونا
يلقي على الارض اليباب ملاءة
خضراء اكسبها الضياء فتونا
مرح الطفولة من السعادة والنشوة عندما يجري معربدا مرحا في سباق مع ظله يخيل اليه من تيهه انه سابقه..ينحني مقبلا ظله ويقفز سريع الخطو مسابقه..فيجوب الساحة يملؤه الفرح والبهجة وينعم اهله بمشاعر الفرحة والسرور..
ينتقل هذا (الغيم) المعربد بين الجبال يسرع الخطو حينا وحينا يقبض..رقيقا ناعما ينساب ضوء النجم الضحوك من خلاله..واذا ما هطل فانه الخير والنعيم وبهجة الحياة يكسو الارض اليباب الجدباء ملاءة الخضرة..
وللمحجوب العديد من القصائد التي يصف فيها الطبيعة وغيرها مثل قصائده (في الربيع-ليالي الشتاء-القديم الجديد)..


الحلقة الرابعة....
شعر الرثاء:
للمحجوب عدد من قصائد الرثاء فيها دفق من مشاعر الحزن الوفي الصادق..والرثاء عند المحجوب فيه من الصدق النفسي والشعوري ما لايدانيه حس آخر ولايماثله..
من مرثياته المشهورة قصائده في رثاء(السيد عبد الرحمن المهدي- الاستاذ العقاد- السيد احمد يوسف هاشم- الاستاذ معاوية نور- خليل فرح- جبران خليل جبران- عرفات- بنت الامير- حسناء)...
هذا من رثائياته في الاشخاص والمحجوب له رثائيات عظيمة في البلدان والاماكن واعلى هذه واعظمها رثاؤه للحضارة الاسلامية العربية التي غربت شمسها في الاندلس ..
يقول في تلك البكائية الرائعة الخالدة:
الفردوس المفقود
في رثاء الأندلس

نزلتُ شَطكِ، بعدَ البينِ ولهانا‎@ فذقتُ فيكِ من التبريحِ‎ ‎ألوانا‎
وسِرتُ فيكِ، غريباً ضلَّ سامرُهُ‎ @ داراً وشوْقاً وأحباباً وإخوانا‎
فلا اللسانُ لسانُ العُرْب نَعْرِفُهُ‎ @ ولا الزمانُ كما كنّا وما كانا‎
ولا الخمائلُ تُشْجينا بلابِلُها‎ @ ولا النخيلُ، سقاهُ الطَّلُّ، يلقانا‎
ولا المساجدُ يسعى في مآذِنِها‎ @ مع العشيّاتِ صوتُ اللهِ رَيّانا‎
‎****
كم فارسٍ فيكِ أوْفى المجدَ شرعتَهُ‎ @ وأوردَ الخيلَ ودياناً‎ ‎وشطآنا‎
وشاد للعُرْبِ أمجاداً مؤثّلةً‎ @ دانتْ لسطوتِهِ الدنيا وما دَانا‎
وهَلْهلَ الشعرَ، زفزافاً مقَاطِعُهُ‎ @ وفجّرَ الروضَ: أطيافاً وألحانا‎
يسعى إلى اللهِ في محرابِهِ وَرِعاً‎ @ وللجمالِ يَمدُّ الروحَ قُربانا‎
لمَ يَبقَ منكِ: سوى ذكرى تُؤرّقُنا‎ @ وغيرُ دارِ هوىً أصْغتْ لنجوانا‎
‎****
أكادُ أسمعُ فيها همسَ واجفةٍ‎ @ من الرقيبِ، تَمنّى طيبَ‎ ‎لُقيانا‎
اللهُ أكبرُ هذا الحسنُ أعرِفُهُ‎ @ ريّانَ يضحكُ أعطافاً وأجفانا‎
أثار فِيَّ شُجوناً، كنتُ أكتمُها‎ @ عَفّاً وأذكرُ وادي النيل هَيْمانا‎
فللعيونِ جمالٌ سِحرُهُ قدَرٌ‎ @ وللقدودِ إباءٌ يفضحُ البانا‎
فتلك دَعْدٌ، سوادُ الشَعْرِ كلَّلها‎ @ أختي: لقيتُكِ بَعْدَ الهجرِ أزْمانا‎
أختي لقيتُكِ، لكنْ أيْنَ سامُرنا‎ @ في السالفاتِ ؟ فهذا البعدُ‎ ‎أشقانا‎
أختي لقيتُ: ولكنْ ليس تَعْرِفُني‎ @ فقد تباعدَ، بعد القُربِ حيَّانا‎
طُفنا بقرطبةَ الفيحاءَ نَسْألها‎ @ عن الجدودِ.. وعن آثارِ مَرْوانا‎
عن‎ ‎المساجد، قد طالت منائرُها‎ @ تُعانق السُحبَ تسبيحاً وعرفانا‎
وعن ملاعبَ‎ ‎كانتْ للهوى قُدُساً‎ @ وعن مسارحِ حُسنٍ كُنَّ بسْتانا‎
وعن حبيبٍ، يزِينُ‎ ‎التاجَ مِفْرقُهُ‎ @ والعِقدُ جال على النّهدين ظمآنا‎
أبو الوليد تَغَنّى في‎ ‎مرابِعِها‎ @ وأجَّجَ الشَوقَ: نيراناً وأشْجانا‎
لم يُنْسِه السجنُ أعطافاً‎ ‎مُرنَّحةً‎ @ ولا حبيباً بخمرِ الدَّلِّ نَشْوانا‎
فما تَغرّبَ، إلاّ عن‎ ‎ديارهمُ‎ @ والقلبُ ظلَّ بذاك الحبِّ ولهانا‎
فكم تَذكّرَ أيّامَ الهوى شَرِقاً‎ @ وكم تَذكّرَ: أعطافاً وأردانا‎
‎ قد هاجَ منه هوى ولادةٍ‎ ‎شَجَناً‎ @ بَرْحاً وشوْقاً، وتغريداً وتَحْنانا‎
فأسْمَعَ الكونَ شِعْراً‎ ‎بالهوى عَطِراً‎ @ ولقّنَ الطيرَ شكواه فأشجانا‎
وعاشَ للحُسنِ يرعى الحسنَ في‎ ‎وَلَهٍ‎ @ وعاش للمجدِ يبني المجدَ ألوانا‎
تلكَ السماواتُ كُنّاها نُجمّلُها‎ @ بالحُبِّ حيناً وبالعلياء أحيانا‎
فرْدَوسُ مجدٍ أضاعَ الخَلْفُ رَوْعَتَهُ‎ @ من بعدِ ما كانَ للإسلامِ عنوانا‎
‎****
أبا الوليدِ أعِنِّي ضاعَ‎ ‎تالدُنا‎ @ وقد تَناوحَ أحجاراً وجُدرانا‎
هذي فلسطينُ كادتْ، والوغى دولٌ‎ @ تكونُ أندلساً أخرى وأحزانا‎
كنّا سُراةً تُخيف الكونَ وحدتُنا‎ @ واليومَ‎ ‎صرْنا لأهلِ الشركِ عُبدانا‎
نغدو على الذلِّ، أحزاباً مُفرَّقةً‎ @ ونحن كنّا‎ ‎لحزب اللهِ فرسانا‎
رماحُنا في جبين الشمسِ مُشرَعةٌ‎ @ والأرضُ كانت لخيلِ‎ ‎العُرب ميدانا‎
أبا الوليدِ، عَقَدْنا العزمَ أنّ لنا‎ @ في‎ ‎غَمرةِ الثأرِ ميعاداً وبرهانا‎
الجرحُ وحّدَنا، والثأرُ جَمّعنا‎ @ للنصر فيه‎ ‎إراداتٍ ووجدانا‎
لهفي على «القدسِ» في البأساء داميةً‎ @ نفديكِ يا قدسُ‎ ‎أرواحاً وأبدانا‎
سنجعل الأرضَ بركاناً نُفجّرهُ‎ @ في وجه باغٍ يراه اللهُ‎ ‎شيطانا‎
ويُنتسى العارُ في رأد الضحى فَنَرى‎ @ أنَّ العروبةَ تبني مجدَها‎ ‎الآنا
في بعض رثائياته لعلنا نلحظ خيطا نفسيا دقيقا يربط المحجوب ببعض من رثاهم.وبعض الذين أنشد فيهم رثاءه هم مجموعة من العلماء والمفكرين والأدباء والوطنيين,وما يحمله العقاد من علم وفكر وجبران من أدب وشعر والامام عبد الرحمن المهدي,من وطنية وحنكة سياسية يمثل في مجموعه العام الخيط الشعوري والنفسي العام الذي تمثل نفس المحجوب نقطة المرتكز في دائرته العريضة. حيث يتفرع من هذا المرتكز مجموعة اشعاعات شعورية وفكرية تمثل الهالة المشعة خارج تلك الدائرة وفي ذلك المرتكز تتحرك خلية حية لا أحسبها سوى نفس المحجوب وذاته.
ويؤكد هذا الرأي ما نعرفه عن المحجوب من اعجابه واعتداده بذاته.
وعلى هذا الرأي فاننا نجد في مثل هذه القصائد ذات المحجوب بقدر مانجد ذات المرثي ومآثره.
المحجوب معجب بنفسه,فخور بذاته,عمل بكلتا يديه لاعلاء شأنه,ولتحقيق ذاته..
عرف بالطموح منذ الصغر,وصاحبه هذا الطموح حياته..ولقد استطاع أن يحقق الكثير كما أسلفنا الذكر فلا غرابة أن تتجول تلك المعاني والصفات أو جزء منها في أعماقه لأنها تمثل جانبا من تكوينه,أو على الأصح فان تكوينه الأدبي والثقافي والسياسي يمثل الكثير من تلك الصفات.
ولكي لا نعتبر مغالين في تفسيرنا هذا فلنستمع اليه وهو يقول في قصيدته (نفسي):
أنت التي من أجل حبك أجهد
ما غير نفعك أستحث وأرصد
ان نال هذا الكون مني طارفا
فهو الفضول وليس رفدا يرفد
الليل أسهره وغيري نوم
أبغى رضاك وهو صعب مجهد
واذا ما اطلعنا على محتويات نفسية المحجوب عرفنا الندبة في رثائه ووجدنا ظلال النفس في قصيده فهو كثير الفخر بنفسه.وللاستدلال والوقوف على نوعية رثائه نجتزئ اليسير من قصيدته في رثاء (العقاد):
عبقر الشعر آب قبل أوانه
رائد الفكر عبقري زمانه
عاد من رحلة الحياة وألقى
عند باب الخلود عقد جمانه
وكنوزا من المعارف شتى
وكتابا يضم ذوب حنانه
فتغنى بكل لحن شجي
فنشيد البقاء من ألحانه
نصف قرن ما ونى منه عزم
أو خبا فكره وجزل بيانه
قيم الفكر فاستظل بحصن
الفراعين لم تنل من كيانه
وهذه رائعته في فقيد الوطن السيد عبد الرحمن المهدي اذ يقول فيها:
العيد وافى فأين البشر والطرب
والناس تسأل اين الصارم الذرب
الواهب المال لا من يكدره
والصادق الوعد لا مين ولاكذب
القصيدة طويلة سوف استعرضها في الصفحات التالية عند مناقشة الاسلوب عند المحجوب..


السماني كمال الدين