عرض مشاركة واحدة
قديم 12-05-2013, 11:49 AM   #24


المحجوب غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 10156
 تاريخ التسجيل :  Nov 2013
 أخر زيارة : 03-07-2016 (07:58 PM)
 المشاركات : 494 [ + ]
 التقييم :  18
لوني المفضل : Brown
افتراضي نـــــــعــــــــــما تـــــــــ




ما أجمل أن يكون جارك محبوب منك وانت محبوب منه ، تحس بأحاسيسه ، فرحه وحزنه ، ضيقه وفرجه ، كربه وسعادته ، أنسه وصمته ، حبه وبغضه ، خيره وشره . تحبه علي علاته ، فلا كمال إلا لله وحده .
فقد كنت و نعمات بنت جيراننا في الحي كذلك . وبرغم إنها فتاة وتكبرني بثلاثة أعوام ، فقد كنت في السادسة من عمري ، إلا وإن صداقتنا لم تكن صداقة عادية ولم تكن هي عادية كذلك كبقية الفتيات في الحي ، لقد كانت شيء آخر لا تفسير له في نفسي آنذاك . لم تكن نعمات تبتسم إلا وتري كل شيء قد أبتسم ولم تكن تحزن إلا وحزن كل شيء ولم تكن تغيب عني إلا وغاب عنا الفرح والسرور ، ما من يوم لم أري فيه نعمات إلا كان كيوم مقداره اعوام و اعوام ، ولم تكن هي ترغب في الذهاب لتلعب مع بقية البنات في الحي ، فقد انقطعت عن تلك العادة يوم اصبحنا صديقين ، لا تفارقني أبدا إلا بعد مناكفة وعناد مع اهلها فانا وهي لا نشرب إلا معا ولا نأكل إلا معا . أما إذا اصاب احدنا مرض أصاب الآخر معنويا ، واما إن كان معد فسيصيب الآخر لا محالة .
نمضي جل يومنا معا ، ولكننا لم نكن نتحدث كثيرا فهي و انا قليلي الكلام ، نجلس علي مقعد من الخشب صغير موضوع علي حوض من الجرجير تعودت زراعته دائما مع بعض الخضروات في مكان قصي من الحوش . يأتي عليه ظل العصر ، لذا فقد كان العصر موعدنا دائما ، وقد جلس كل واحد منا في نفس المقعد معطيا ظهره للآخر ، فإن أغضبتها في شيء او اغضبتني ! دفعتني بظهرها بقوة . أذكر في احدي المرات انها دفعتني بقوة كما اعتادت ولكنها فاجأتني بتلك الدفعة فسقطت علي الحوض ، وكنت قد سقيته قبل لحظات من موعدنا ، فابتلت ملابسي ووجهي بالطين ، ما كان منها إلا أن جثت علي ركبتيها في الطين وأخذت ترفعني منه وتنظف وجهي بيديها وهي تنظر الي نظرة لم أفهمها في حينها لان جدارا من الدمع بعينيها قد حجبها عني في تلك اللحظة . فدمعت عيناي معها وابتسمنا معا ابتسامة اختلطت بطين امتزج بدموع حب طفولي طاهر نقي صاف كماء المطر .
تلك هي نعمات صديقة الطفولة والتي لا ولم ولن تمحي من ذاكرتي أبدا ما حييت . فلا زلت أبحث عنها . ابحث عن تلك ( النعمات)، فقد كانت نعمة الجار ، نعمة الطفولة والبراءة ، نعمة الوفاء و الاخلاص ، نعمة المودة والرحمة ، نعمة الحب الصادق الطاهر العفيف مجتمعة فصارت اسم علي مسمي ( نعمات ) .
كان يوم افترقنا يوم لم أشهد له مثيل في حياتي قط .يوم اهتزت فيه مشاعري وتزلزل فيه كياني وتهاوت فيه روحي في مكان سحيق . يوم أظلمت فيه نفسي وتاه الوجدان في ظلمتها بلا نجم ولا بدر منير . ذلك اليوم كان مشهده مثل دراما هندية ، يوم بلا إحساس وبلا وعي وبلا تاريخ ، بلا لون وبلا طعم ولا شهية ، يوم توقف فيه الزمن وغاب المكان وشاخت وانزوت الحياة في ركن قصيى . فقد كان قد مضي علي وفاة والدها عام كامل ، لم تنشغل فيه نعمات عني ولست كذلك عن برنامجنا المعتاد إلا في ايام العزاء ، و لم يكن رحيل والدها ليؤثر علي تلك الصداقة السمحة المتينة بهذه السهولة بل زادها إرتباطا ووثوقا وحكمة . ولم تتأثر صداقتنا بأي سبب آخر ، سواء ان كان بسبب دخولي المدرسة الابتدائية وذلك كان بعد وفاة والدها بعام ، او صداقات المدرسة وفريق الكرة في الحي . فمازالت عصرياتنا بخير وصداقتنا متينة عدا بعض القصور في زمن الانُس الصامت . بل اصبح التقارب اقوي بفعل المذاكرة التي كُلفت بها نعمات لمراجعة دروسي بحكم انها تسبقني في المدرسة ، فأنا في الاول وهي في الثالث واعني بذلك تحفيظ القرآن و الاناشيد .
مرت الايام ونحن بهذا النسق المستكين إلا من بعض المناسبات هنا وهناك مما يحملنا لتعديلات طفيفة تقربنا زلفي ، لما لها من قدرة علي تأجيج الاشواق بإحساس الفراق والفرق بين وجود ولا وجود . والقدر بنسج خفية بين خيوط الود واللقيا جدارا عازلا يفصل به ما بين الاصدقاء والاحباب ولا خيار في ذلك لاحد .
في نهاية العام الدراسي وبعد الامتحانات ، جاءت العطلة الكبيرة وبداء ت الاسر في التحضير للبرنامج الجديد كلٌ بحسب الوضع ، فمن كان في غير مدينته ، نسق الاهل للعطلة في الديار و من كان لديه زيارات للأهل المتفرقين أعد للوضع بما يناسبه .
فكر اهل نعمات القيام بزيارة الديار لأول مرة منذ سنين عددا ، فوجود الوالد قبل وفاته وتضارب مصالحه مع العطلة جعلها مهمة شبه مستحيلة ، إلا علي المستوي الفردي وقد حدثت بالمناسبات .
هنا بدأت حالات متفرقة من التمرد والعصيان من جانبنا واستراتيجية تفويت بعض الوجبات ( الدخول في اضراب معلن عن الطعام ) حردا وتهديدا بإعلان عصيان مدني مرتقب إن لم تستجاب المطالب او تكون هنالك مرونة في التفاوض ، وكان الحل الوسط لنعمات أن تستأذن اسرتها والدي ، لأقضي العطلة معهم وإلا فإنها لن تسافر معهم وستبقي معنا إلي ان يعودوا نهاية العطلة .
صادف تلك العطلة فكرة مسبقة لوالدي الذهاب لزيارة مدينة كسلا وقد اعد العدة لذلك من تصاريح سفر الي ملابس وحقائب قبل ان يؤكد النية بها ، فكانت اقرب الحلول الوسط قبولا لدينا ، وبعد الوعود بالموافقة علي مشروعنا في العطلة القادمة ، فقبلنا علي مضض .
مرت العطلة ورددنا الي سابق العهد وقد بلغ منا الشوق والحنين مبلغا تمنينا فيه العودة تحليقا وعلو في سماء اشواقنا ، وكان اللقاء لوحة من الالوان منسابة بلا حدود ، وبلا تباين شاذ ممزوجة بماء الورد والقرنفل والصندل في امسية ظل الشفق ساطعا علي بقايا سحب عكست ضوء المساء بلونه علي الارض حينا ، حتي خلصت التحايا والوصايا ، ولم يلحظ احدا غيابنا حينها فقد كنا جلوسا علي المقد الخشبي ظهورنا لبعض ، وكان الاُنس الصمت الصارخ . كسرته نغمة حزن من نعمات لتقول لقد قرر اعمامها ان تنهي الفصل الرابع ، وحينها سيرحلون نهائيا الي الديار بلا عودة . لم يتركوا لنا خيارا آخر وسيعودون لامحالة .
فكانت تلك السنة دهرا من المعاناة والترقب المفزع والانتظار المبغض ، ولحظات قليلة من حب اخوي صادق دمغ آثاره في ذاكرة الزمن محفورة بإزميل الود ، محماة بنار الفراق المر ، وكانت تلك اللحظات آخر عهدي بها ، إلا من بعض الاخبار المتقطعة .
فإنها بقيت لم ترحل ،،،،،،،،،، ! بل رحل الزمن الجميل .
" المحجوب "


 

رد مع اقتباس